نجحت روسيا في أستانة 4 بحمل تركيا على توقيع مذكرة اتفاق «خفض التصعيد والتوتر» في أربع مناطق سورية. لكنّها أخفقت في إقناع الولايات المتحدة بالتزام الاتفاق ذاته، لماذا؟
متحدثةٌ باسم الخارجية الاميركية أعربت عن أملها في أن يُسهم اتفاق أستانة في «تخفيف حدة العنف ومعاناة السوريين ويهيّئ المسار أمام التسوية السياسية»، لكنّها أبدت قلقها مما تضمّنه الاتفاق من «مشاركة إيران كدولة ضامنة».
تحفّظُ واشنطن كان سبقه رفضُ سبع مجموعات مسلحة ناشطة في مختلف المناطق السورية «تحويل إيران الى طرفٍ ضامن». اللافت ان معظم هذه المجموعات المقاتلة ينشط تحت جناح تركيا، فهل موقفها تمّ بالاتفاق مع أنقرة ام جاء استجابةً لضغوط من غيرها؟
واشنطن رحّبت بالاتفاق «وقدّرت جهود تركيا وروسيا للوصول إليه»، فلماذا لم تنخرط بشكل مباشر في مساره؟ ثمة أسباب ودوافع في هذا المجال يقتضي استقصاؤها وهي تتعلّق، مباشرةً أو مداورةً، بأهداف استراتيجية بعيدة المدى، لكلٍّ من تركيا و…»إسرائيل»:
لنبدأ بتركيا. لأنقرة، حيال سورية، هواجس عدّة. لكن أولها وأخطرها وأكثرها مدعاة للقلق هاجسُ الأكراد السوريين وسعيهم المحموم للسيطرة على المناطق الحدودية في شمال سورية، ولا سيما في محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة. لقطع الطريق على طموحات الأكراد السوريين، قامت أنقرة بإنشاء قوات «درع الفرات» المطعّمة بوحدات من جيشها احتلت منطقة واسعة بين مدينتي الباب ومنبج بعدما كانت سيطرت على مدينة جرابلس الحدودية. الى ذلك، انتقدت انقرة قيام واشنطن بتزويد «قوات سورية الديمقراطية» قسد الكردية بأسلحة ثقيلة ودعمها بوحدات من مشاة البحرية «مارينز» للمشاركة في معركة طرد «داعش» من مدينة الطبقة تمهيداً لطرده من الرقة عاصمة «الدولة الإسلامية». كل هذه الاعتبارات والمخططات المتصادمة حملت وتحمل أنقرة على مراعاة الولايات المتحدة بما هي قائدة حلف شمالي الأطلسي الذي يضمّ تركيا من جهة، وحليفة أكراد سورية والعراق من جهة أخرى، هذا فضلاً عن كونها، ظاهراً على الأقلّ، منخرطة في محاربة «داعش» في العراق وفي محافظة الرقة أيضاً.
الولايات المتحدة تبدو حريصة، لاسيما بعد وصول دونالد ترامب لرئاستها، على استعادة دورها ونفوذها في سوراقيا سورية والعراق بعد تراجعهما إبّان رئاسة باراك أوباما وصعود «داعش» في كِلا البلدين. غير أن هاجس واشنطن الأول يبقى الحدّ من توسّع نفوذ إيران ودورها في سوراقيا، خصوصاً بعد قيامها بدعم سورية، سياسياً ومالياً وعسكرياً، في وجه تنظيمات الإرهاب. الى ذلك، يبدو أن لواشنطن مخططاً يرمي الى تفكيك العراق وسورية كيانات متعددة تقوم على أساس قَبَلي او مذهبي او اثني، وذلك في سياق سياسة مواجهة إيران ومنعها من الوصول الى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط. مظاهر هذه السياسة الأميركية تتجلى حالياً في ما كشفته تقارير إعلامية، عربية وغربية، عن وجود حشود تتجمّع في شمال شرق الاردن امتداداً الى جنوب شرق البادية السورية باتجاه موقع التنف العراقي على الحدود بين البلدين. يترَدّد أيضاً أن الحشود تضمّ وحدات من «جيش سورية الجديدة « و»مغاوير الثورة» و»جيش العشائر»، وأنه سيجري دفعها باتجاه محافظة دير الزور للالتقاء مع الدواعش الفارين من الموصل والمتعاونين مع متمردين آخرين ضد الحكومة السورية. كل هذه التحركات ترمي في نهاية المطاف الى إنشاء كيان – إسفين على طول الحدود السورية العراقية من شأنه فصل سورية عن العراق، وبالتالي عن إيران لمنعها من الوصول الى شواطئ البحر المتوسط.
«اسرائيل» تحرّض الولايات المتحدة على اعتماد المسار سالف الذكر بما هو نهجٌ فاعل في مواجهة ايران وتجويف مضمون الاتفاق النووي معها ويساعد أيضاً في « تزنير» الكيان الصهيوني بمجموعة من جمهوريات الموز الهزيلة وغير القادرة على الاتحاد لمواجهته.
هذه الغابة من المخططات والتطلعات والمطامع والمطامح والأغراض المتشابكة ستبقى متأججة، متشابكة، ومدعاةً لمزيد من الصراعات المتفاقمة في منطقةٍ تضجّ بتناقضات عدة قبل ظاهرة «الربيع العربي» وبعدها. في هذه المعمعة ثمة تاريخان يستوقفان المراقب ويدفعانه إلى مزيد من التساؤل:
الاول، ماذا سيحدث إذا أخفقت الدول الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، في التوافق على التدابير والخرائط اللازمة لتحديد مناطق «خفض التصعيد والتوتر» الأربع في المهلة المحددة لذلك والتي تنتهي في 22 ايار/ مايو 2017؟ ثم ماذا سيحدث إذا انتهت مهلة الأشهر الستة اللاحقة لترسيخ هذه المناطق ولم تتوصل الدول الضامنة خلالها الى نتائج غيجابية محسوسة على طريق ترسيخ الهدنة والتوجّه الى تسوية سياسية للأزمة المستعصية؟
الثاني، ماذا سيحدث خلال جولة ترامب المقبلة على السعودية و»اسرائيل» لتسويق مسعيين غامضين ما فتئ يلوّح بهما في الآونة الاخيرة: تعزيز جبهة الدول المناهضة للإرهاب، والمبادرة الى تحقيق «سلام تاريخي» بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
غير أن أحداثاً لافتة في جنوب سورية تستبق جولة ترامب، ليس أقلها التحركات المريبة التي تقوم بها الفصائل الإرهابية المتعاونة مع «اسرائيل» في محافظتي درعا والقنيطرة والمشفوعة بتحركات مريبة مماثلة في شرق محافظة السويداء وغربها. فهل ثمة ترتيب أميركي صهيوني ماثل يواكب إقامة منطقة «خفض التصعيد والتوتر» الجنوبية لإجهاضها قبل رسوخها؟
ثم هناك المجهود القتالي المتسارع الذي تقوم به قوات الجيش العراقي ووحدات «الحشد الشعبي» لإنهاء معركة الموصل وتأمين حدود العراق الغربية مع محافظة الرقة السورية، وكذلك تأمين منطقة القائم الحدودية مقابل مدينة البوكمال السورية. كل ذلك من أجل تفعيل التعاون بين بغداد ودمشق وتوحيد جهدهما المشترك ضد تنظيمات الإرهاب باستقلال عن اميركا من جهة وضد القوى الانفصالية في الداخل من جهة أخرى. فهل تغضّ واشنطن النظر عن هذا التطور المناهض لمخططها التفكيكي المار ذكره ام تسارع الى مواجهته انطلاقاً من منطقة احتشاد حلفائها بين الأردن وسورية والعراق في جنوب سورية الشرقي كما في جنوبها الغربي؟
واشنطن أعلنت أن اتفاق «خفض التصعيد والتوتر» لن يمنع سلاحها الجوي من ضرب «داعش» حيثما يوجد. ذلك حمل ناطقاً باسم وزارة الدفاع الروسية على الإعلان بأن سلاحها الجوي سيتابع دعم الجيش السوري ضد تنظيمات الإرهاب، ولاسيما في انطلاقته الجديدة من تدمر لتحرير محافظة دير الزور من «داعش» وحلفائه.
مساعي التهادن ناشطة وكذلك احتمالات التصادم…